عدد الزيارات : 2565
المقالات الأخلاقية 22 نيسان 2016


الحياة هبة من الله

 الأب رافي حلاوة

الموضوع الذي نعالجه يتضمّن ناحيتين متلازمتين ومتكاملتين: فمن جهة الحياة هي هبة من الله، ويجب إنماؤها واحترامها، ومن جهة أخرى العقل البشري هو أيضًا هبة من الله ويجب احترامه وإنماؤه. فالله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله. والعقل هو عنصر من عناصر تلك الصورة الإلهيَّة في الإنسان. ولذلك بعد أن خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، قال: "انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها". وكون الإنسان على صورة الله، منحه الله السلطة على الأرض لإخضاعها. وراح الإنسان يطوّر الأرض ويطوّر ذاته في آنٍ معًا، وتوصَّل العلم في نهاية القرن العشرين إلى إمكانات مذهلة في مختلف الميادين بما في ذلك ميدان الطب. فالسؤال الذي لا بدَّ من طرحه في البدء: هل كلّ ما يقدر عليه الإنسان يجوز له أن يفعله؟ وما هو القياس الذي يمكن الاستناد إليه لتحديد ما يجوز عمله وما لا يجوز؟

بطريرك الروم الكاثوليك الاب رافي حلاوةجوابنا واضح منذ البداية: قياس الأخلاق ليست الإمكانيات العلميّة. ذلك أنَّ الإمكانيات هي نفسها بحاجة إلى مبادئ أخلاقيَّة تسير عليها. هل تكون وصايا الله هي ذلك القياس الأخلاقيِّ؟ لا ريب في أنَّ المؤمن يجد في وصايا الله تعبيرًا عن الشريعة الطبيعيَّة التي حفرها الله في قلبه وقواعد ثابتة لكلّ أعماله. ففي موضوع الحياة مثلًا يوصي الله: "لا تقتل"، وفي موضوع الجنس يوصي: "لا تزن". ولكنّ الاستناد إلى الوصايا لا يكفي، وذلك لسببين: أولًا: لأنّ هذه الوصايا تبقى في المبادئ العامة ولا تدخل في التفاصيل. إنَّها تضع بين يدي الإنسان أساسًا يجب دومًا الرجوع إليه. ولكنّ هذا الأساس بحاجة إلى بناء تفصيلي. ثانيًا: هناك حالات يجد الإنسان فيها نفسه أمام وصيّتين وواجبين لا يستطيع أن يطبّقهما معًا. فما الذي يجب أن يختاره من الاثنين؟

موضوع أخلاقيات الحياة يندرج في معظم مسائله في هذا الإطار: أي الاختيار بين واجبي وبين خيري. لا أحد يدّعي أنَّه يجوز اختيار الشرّ. وإلاّ خرجنا عن نطاق الأخلاق. فالأخلاقيات هي تفكير حول كيفيَّة فعل الخير واجتناب الشرّ. والقيم الأخلاقية هي معطيات تسبق وجود الإنسان وحرّيته واختياره. إنَّه يكتشفها في ذاته وفي الآخرين وفي كلِّ المجتمعات، ويدرك أنَّه لا يمكنه التخلّي عن إنسانيّته، كاحترام الحياة مثلًا، واحترام حريّة الغير على جميع الأصعدة، واحترام حقوق الغير بالمحافظة على العدالة. فالحياة والحريَّة والعدالة هي قيم أخلاقيَّة موضوعيّة لا يخلقها الإنسان – لأنَّه كائن مخلوق. بل يجدها فيه ويدرك واجب احترامها. فكما أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يخلق أيّ شيء من العدم، كذلك لا يستطيع أن يخلق أيَّة قيمة أخلاقيَّة. فكما أنّ الحياة ليست صنعه، كذلك قيمة الحياة ليست صنعه.

ماذا يبقى إذن للإنسان، إذا حرمناه السلطة على خلق القيم؟ يبقى له وضعُ قواعد للمحافظة على تلك القيم وتطبيقها تطبيقًا ينسجم مع تطوّر الإنسان وتطوّر المجتمعات عبر التاريخ. الحياة والحريِّة والعدالة هي قيم مطلقة، وهذا ما يشير إليه اللاهوت الأدبي في مقولة الشريعة الطبيعيَّة وفي تأكيده ضرورة التقيّد بوصايا الله. ولكنّ تطبيق تلك القيم خاضع لتطوّر التاريخ. وفي هذا يقوم عمل حريَّة الإنسان وقدرته على التجديد المستمرّ. في كلِّ حقبة من التاريخ يُطلب منه وضع قواعد جديدة واستنباط وسائل جديدة للمحافظة على الحياة وضمان حرّية الغير وتأمين العدالة لجميع الناس وجميع الشعوب، وتعزيز كلّ القيم الأخلاقيَّة بقدر ما تُحترم القيم الأخلاقيَّة، كالحياة والحرية والعدالة. فيجب دومًا النظر إلى غاية كلّ عمل. بقولنا هذا لم نحلّ كل المشكلات، ولكننا في هذا القول نضع مبدأ أساسيًا عليه يرتكز كلّ تفكير حول أخلاقيَّة الأعمال الإنسانية: على الإنسان، في كلَّ أعماله وفي كل حالات صراع القيم التي يتعرّض لها، أن ينظر إلى القيمة التي يسعى إليها في عمله وإلى الخير الذي ينتج منه لنفسه وللآخرين. فما هي القيم التي يجب احترامها وما هو الخير الذي يجب السعي إليه؟

وهنا لا بدّ من التنبيه بأمر هام، وهو أنّ الإنسان ليس مجرّد فرد، بل هو شخص، أي إنَّه كائن يشخص إلى الآخرين. لا وجود لأحد منفردًا على الأرض. كلّ إنسان هو من الآخرين ومع الآخرين ولأجل الآخرين. ففي أخلاقيَّات الحياة كما في كل المواضيع الأخلاقيَّة، لا يكفي النظر إلى خير الفرد بل يجب النظر إلى خير المجتمع كلَّه. ففي موضوع الإجهاض، مثلًا، لا يكفي، لتقديم الجواب الأخلاقي عن المشكلة، النظر إلى المرأة الحامل وإلى رغبتها أو إلى نزوتها، ولا إلى إمكانات الطبّ المعاصر. فلا بدّ من النظر أوّلًا إلى قيمة الحياة التي يجب الحفاظ عليها. كما يجب النظر أيضًا إلى خير الجنين الذي تحمله وإلى نتائج الإجهاض على المجتمع كلِّه. وفي هذا الأمر لا يكفي العودة إلى الشريعة التي تبقى على صعيد المبادئ العامّة، فيما الأخلاق هي تطبيق تلك المبادئ على خير الأشخاص في مختلف ظروف حياتهم. من هنا إذًا ضرورة تربية العقل، أي تثقيفه على إدراك الخير ومعرفته، وتربية الضمير، أي تثقيفه على إرادة الخير الذي يكون قد عرفه.

 إنّ هدف اللاهوت الأخلاقي هو مساعدة الإنسان على أن يحيا بحسب صورة الله التي خُلق عليها، وإرشاده إلى أفضل السّبل التي يجب عليه اتّباعها للوصول إلى تحقيق تلك الصورة الإلهية فيه، عملًا بوصيّة السيد المسيح: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي هو كامل" (متى ٥: ٤٨). 

أولًا: كرامة الإنسان في خطر

 ما زالت الكنيسة تعلّم أنَّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله لينعم بحياة زاهرة وكاملة (تك ٢/٧). إنّ حياة الإنسان ليست ملكه أو ملك غير من البشر، وإنّما هي ملك الذي خلقه أي الله. لذا، فكلّ من يتعدّى على حياة الإنسان فكأنّه يتعدّى على الله نفسه (إنجيل الحياة، فقرة ٤).

بطريرك الروم الكاثوليكإنّ كبرياء الإنسان الأول قادته إلى معصية الله. وكبرياؤه أيضًا دفعته إلى قتل أخيه. فالحسد والغضب يتقلّبان على دعوة الرب للإنسان ليحفظ كرامة أخيه ويحبّه كما يُحبّ ذاته. واليوم، تتكرّر الجريمة بحقّ الإنسانية نتيجة العنف والبغض والمصالح المتضاربة التي تدفع الناس إلى التهجّم على أناس آخرين وارتكاب إبادات وحروب ومذابح. كذلك ما تتعرّض له النساء والأطفال وأمثال كارول (المعاقين) من البؤس وسوء المعاملة وسوء التغذية والمجاعة والاستبداد والأمراض نتيجة لما سبق.

أمَّا في العالم المتحضّر علميًّا وتقنيًا وماديًا فالمصاعب موجودة والتعدّيات على كرامة الإنسان تأخذ أشكالًا مختلفة، نستطيع معها القول أنَّ هناك أزمة ثقافيَّة إيمانيَّة تتعلّق بمفهوم إنسان العالم الحر لمعنى وجوده وحياته!

وإذا كانت الحروب تشنّ على المستضعفين في دول العالم الثالث الرازحة تحت ثقل الأعباء الاقتصاديَّة والصحيَّة والصراعات الدمويَّة... فإنّ الحروب تُشَنّ بأسلوب حضاري ضد المستضعفين من الذين يعجزون عن قول كلمة "لا" في وجه قاتليهم في دول العالم المتحضّر. فأُبيح القتل الرحيم في عدد من الدول واستخدمت تقنيات بدون أي رادع أو ضابط أخلاقيِّ أو دينيِّ. واليوم دخل الإنسان في عصر آخر هو عصر الجينات الوراثية والتلاعب فيها بقصد الاستنساخ أو لأغراض وأهداف لا يعلم مداها إلاّ الله وحده.

ثانيًا: كرامة الإنسان وحضارة الموت

إنَّ حضارة الموت هذه تنبع من نظرة إلى الحرية مفرطة في الأنانية تسيطر في نهايتها حريَّة الأقوياء على الضعفاء الرازحين تحت نير أعباء الحياة المختلفة (إنجيل الحياة، فقرة ١٩). إنَّ هناك تناقضًا غريبًا بين الدعوات إلى حقوق الإنسان وتحقيق حريَّته وكرامته وبين الممارسات التي تدفع بالكثيرين إلى فهم هذه الحريَّة وهذه الممارسات على نحو خاطئ.

ينسى إنسان اليوم أنَّ الحريَّة التي يمتلكها هي موهبة من الله وهي في خدمة الإنسان ليبلغ إلى الكمال ببذل الذات والانفتاح على الآخر، فالحريَّة التي يستخدمها بعيدة عن معرفته بالله تتلف الحياة في المجتمع تلفًا ذريعًا. وهي تتستّر برداء برّاق من شعارات إنسانيَّة هي أبعد ما تكون عنها.

فالمطالبة بحقّ العقل الرحيم والإجهاض وقتل الجنين والاستنساخ والتلاعب بالجينات... كل ذلك يؤدّي إلى أن نفزع على الحرية البشرية معنىً فاسدًا وحائرًا، معنى سلطة مطلقة على الآخرين وضد الآخرين (إنجيل الحياة، فقرة ٢٠).

وللأسف، نقول إنّه رغم كلّ الادعاءات التي تنادي بكرامة الإنسان فإنّها مزيّفة لأنَّ المأساة التي يعيشها الإنسان المعاصر هي في كسوف معنى الله، ومعنى الإنسان عنده. لأنّه عندما يفقد الإنسان معنى الله، فهو يجنح إلى فقدان معنى الإنسان أيضًا. وعندما يغرب معنى الله عنه يُمسي معنى الإنسان أيضًا مهدّدًا.

إنَّ إنسان اليوم ألغى الله كمرجعيّة لحياته، لذلك فسد معنى الأشياء عنده فسادًا سريعًا. وأصبحت الطبيعة البشرية عرضة لأهواء القائمين عليها. فأصبح العذاب عبئًا ثقيلًا يلازم الوجود البشري ويجب التخلّص منه عوضًا من أن يكون فرصةً للنمو الشخصي. وما عاد الجسد في نظر بعضهم حقيقة شخصيَّة مميَّزة، علامةً، وكيانًا، للعلاقة مع الآخرين ومع الله ومع العالم، بل أمس مجرّد كتلة مادية لا تستعمل إلاّ وفقًا لمقاييس اللذة والفاعلية.

وانطلاقًا من هذه الرؤية الماديَّة إلى الحياة فإنّ أول من يدفع ثمن هذه الحضارة هم المستضعفون في الأرض الذين جاء المسيح إليهم في المقام الأول، ونعني: كلَّ المرضى بما فيهم المعاقين، الأطفال، النساء، الأجنّة، المتأملين، المسنّين، المشدّدين...

فالمقياس الحقيقي الذي به تُقاس الكرامة الشخصية: مقياس الاحترام والخدمة لا مقياس الماديَّة والمنفعيَّة.

ثالثًا كرامة الإنسان في الإيمان المسيحي وفي نظر الكنيسة.

إنَّ مشروع الحياة الذي أوكله الله إلى آدم الأول قد وجد، أخيرًا، كماله في المسيح. فبينما آدم الأول يفسد ويشوَّه قصد الله في حياة الإنسان ويدخل الموت إلى العالم، إذا بطاعة المسيح الفادية تصبح ينبوع نعمة تفيض على الناس وتفتح للجميع أبواب ملكوت الحياة (روم ٥/١٢).

فكلّ الذين يرضون باتباع المسيح يعطون كمال الحياة. منهم ترمَّم الصورة الإلهية وتجدّد وتساق إلى كماله. هذا هو قصد الله في الخلائق البشرية أن يصبحوا على مثال صورة ابنه (روم ٨/٢٩). عندها فقط يستطيع الإنسان أن يتحرَّر من العبودية المادية ويعود إلى بناء الأخوة المصعدة، واسترداد هويته (إنجيل الحياة، فقرة ٣٦).

فدعوة المسيح لنا هي لإشراكنا في الحياة الإلهية وقوامها أن يكون الإنسان مولودًا من الله وأن يشترك في كمال حبِّه (يو ١/١٢-١٣). فالحياة الأبديَّة الحقيقيَّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح (يو١٧/٣).

معرفتنا لله، هي كمالنا، لدخول في شركة مع حبّ الثالوث الواحد. وكما يقول القديس إيريناوس (+ ٢٠٢) : "مجد الله هو الإنسان الحي". من هنا نرى أنَّ كرامة الحياة بحسب المفهوم المسيحي لا ترتبط فقط بجذورها وأنَّها من يد الله، بل ترتبط أيضًا بغايتها ومصيرها وهو أن تكون في شركة مع الله لمعرفته ومحَّبته (إنجيل الحياة، فقرة ٣٨).

لذلك فالكنيسة استنادًا إلى السلطة التعليمية التي أولاها إياها المسيح، وبنعمة الروح القدس الذي يلهمها ويوجهها تؤكد "أنَّ حياة الإنسان هي من عند الله لذلك فهي عطيَّته وصورته ورسمه ونصيب من نسمة حياته، فالله، إذًا، هو وحده سيّد الحياة والموت ولا يسوَّغ للإنسان أن يتصرف بها على هواه" (إنجيل الحياة، فقرة ٣٩).

الدعوة إلى احترام قدسيَّة الحياة الجسديَّة واحترام سلامة جسم الإنساني ما زالت ملحّة. ويبلغ هذا البلاغ إلى ذروته في الوصية الإيجابية القاضية على كل فرد بأن يعامل قريبه معاملته لذاته "أحبب قريبك كنفسك" (أحبار١٩/١٨). ويتوّج إعلان المحبّة هذا بالصلاة من أجل العدوّ انسجاما مع محبّة الله الرحيمة "أمّا أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم.." (متى ٥/٤٤-٤٥).

لقد ابتعد المسيح شوطًا أعمق في العلاقات الإنسانية فلم يكتف بأن تتلازم محبّة القريب مع محبّة الله، بل حتى إلى محبة العدوّ والآخر البعيد عني ومسامحته. لذلك فالإنسان الذي يسمع كلام الله يمكنه أن يحيا في ملء الكرامة والبرّ، وباتباعه شريعة الله يمكنه أن يحمل ثمار حياة وسعادة دائمة لكلّ إنسان مهما كان ضعفه ومرضه "كلّ من تمسّك بها فله الحياة والذين يهملونها يموتون" (باروك ٤/١).

وفق هذه الرؤية المسيحية، إذًا، وفي ضوء تعاليم المسيح وإرشادات الروح القدس، فإن كل تعدٍّ على الحياة أيًا كان نوعه انتهاكًا لكرامة الإنسانية جمعاء، وليس انتهاكًا لكرامة شخصٍ معينٍ فقط.

إنَّ حضارة الموت أفرغت الإنسانَّية من كرامتها، عكس حضارة الحب التي دعا إليها السيّد المسيح. فعلى كلّ مسيحيِّ، أن يعي دوره في هذه الحياة، وأن يميز وسط صخبها وضجيجها نداءات الروح القدس لكي لا ينجرف مع تيار العلمنة المادية الخطرة. إنه من المسيء حقًا أن تتبنى منظمات وجمعيات لا بل أنظمة سياسية قائمة مشاريع ظاهرها مبنيّ على حقوق الإنسان وحرية الفرد، وباطنها كمن يلقي السم في الدسم. فقوانين القتل الرحيم والإجهاض والاستنساخ ومنع الحمل وانتقاء الأجنّة وطفل الأنبوب...الخ تجعل مسيحيي اليوم حيارى في اتخاذ قراراتهم المصيريَّة.

إنَّ ظروف الحياة المختلفة بكلّ مغرياتها لا تحول دون أن يعيش المسيحيّ الملتزم إيمانه المسيحيّ بإخلاص، وعلى رأسها معرفته ذلك، ومعرفته أنّ الله خلقه على صورته ومثاله وأنّ كلّ إنسان أيّاّ كانت إعاقته أو ظروفه أو محدوديّته مدعوّ للسير، معًا، في طريق الملكوت ونيل حريّة أبناء الله.

ومع ما يسود من فوضى خلقيّة وسوداويّة وتبلبل في القيم نعاين، هنا وهناك، أنوار الروح القدس تسطع لتنير دروبنا وتعطينا بصيصًا يهدينا كبشر، ويعرّفنا بأنّ الله الخالق ما زال يعمل في الكنيسة وفي البشرية وهو يدعونا للانضمام إليه. فها هي جمعيّات وأخويّات مختلفة هدفها الحفاظ على كرامة الإنسان والعائلة والأولاد والضعفاء...

بطريرك الروم الكاثوليكفالقتل الرحيم، كما تحدّده الكنيسة الكاثوليكية، "هو كلّ عمل أو كلّ إهمال يؤدي إلى الموت، بذاته أو بالنية، بهدف إلغاء كل ألم" إنجيل الحياة، رقم ٦٥. انطلاقا من هذا التحديد، تندّد الكنيسة الكاثوليكية بكلّ تعدٍّ على حياة الإنسان العليل، حتى لو كان هذا الأخير في وضع صحّي دقيق. فعندما يشعر المرء بأنّ حياته أضحت مجرّدة من كلّ أمل، يقع في اليأس ويتمنى أن تقصّر أيامه ليخفف من آلامه وعذابات أنسبائه. وتصف الرسالة هذه الحالة من دون أن تقرّ بها: "فالموت يمسي انعتاقا يُطالب به عندما يُعتبر الوجود مجرّدًا من كل معنى إذا استغرق في الألم وحُكم عليه حكمًا مبرمًا بعذابات تزداد كلّ يوم حدّة وتبريحًا" (إنجيل الحياة رقم ٦٤). وتعلّل الرسالة تصاعد حدّة المسألة بانخفاض في الإيمان، وخصوصًا بنزعة معاصرة تجعل من الإنسان السيّد الأوحد في هذا العالم، يتحكّم بمصيره وكأنه المرجع الوحيد في كلّ شيء. ولعلّ تطوّر الطب هو الذي عجّل في تعاظم هذه الفكرة، ممّا جعل الحوار بين المؤمنين وغير المتدنيّين عقيمًا.

ولعلّ المسائل الاجتماعية والاقتصادية هي أهمّ ما يسيء إلى قيمة الإنسان وكرامته إن هي تحكّمت بمصيره وجعلته يشعر بعدم أهميته ومكانته بين أترابه. فإذا ما تفلفلت روح المنفعيّة في مكان ما، يُضحي الإنسان مجرّد آلة تستخدم في خدمة الآخرين، ثمّ تُرمى بعيدًا حالما تستنزف طاقتها. إنّ موقف الكنيسة واضح في هذا الشأن. فقد حملت دومًا على كلّ ما يسيء إلى الإنسان ومكانته في الحياة، لأن أهمية الإنسان لا تقاس بإنتاجيته فحسب، بل ببعده وقيمته الإلهيين. تقول الرسالة في هذا السياق: "تمسي تجربة القتل الرحيم على مزيد من الإغراء، وهي تجربة التحكّم بالموت وإحداثه قبل الأوان، فيضع الإنسان هكذا، بطريقة وئيدة، حدًّا لحياته أو لحياة الغير. هذا الموقف قد يبدو منطقيًا وإنسانيًا، ولكنّه يتّضح في الحقيقة، لا معقولًا ولا إنسانيًا، إذا توغّلنا في تمحيصه. فنحن ههنا بإزاء مظهر من أرهب مظاهر "حضارة الموت" التي تتسرّب خصوصًا إلى المجتمعات المترفة المطبوعة بطابع الذهنيّة.

ووجيز القول أنّ القتل الرحيم المتعمّد، يعتبر في تعليم الكنيسة الكاثوليكية جريمة وانتهاكًا لشريعة الله. (الأخلاق والطب للأب جوزف معلوف ١٩٩٧ص١٠٦-١٠٨). ففي غروب حياته، خصوصًا في ساعات الشدّة والضيف، لاحتياج الإنسان إلى علاجات ومسكنات طبيّة لتخفيف آلامه فحسب (فهي ضرورية لتوازنه وكرامته، وتوصي بها الكنيسة في معظم وثائقها، إنجيل الحياة رقم ٦٥)، بل إلى مرافقة صادقة وحضور فعّال من قبل أهله وأقاربه والفريق العامل في المستشفى، كي يشعر حقًا بالفرح والطمأنينة والكرامة.

لقد شجّعت الكنيسة منذ أمد بعيد الأبحاث العلميّة في معظم ميادينها. لكنّها، في الوقت عينه، كانت متنبّهة لكلّ انحراف قد يصدر عن هذا العلم أو ذاك. فكلّ مرّة تسعى العلوم إلى تنصيب نفسها وكأنها المقياس الوحيد للحقيقة، تجرّ المرء إلى التفرّد برأيه وإلى إطلاق الأحكام النبوّية. ولعل هذا التراث الفكريّ، المستوحي من فلسفة الأنوار"، والناشب من عقل الإنسان المعاصر هو، في عرف الكنيسة، ذلك التيّار الذي ما برح يُبعد الإنسان عن الله، وبالتالي عن القيم الأخلاقية الناجمة عنه.

الكنيسة، في بعض الكتّاب المعاصرين، حتى في الأوساط المسيحيّة المؤمنة، أمست واحدة في عشرات المرجعيّات الأخلاقية التي تعطي رأيها في تنظيم القيّم والعادات والشرائع. فلا يحق لها، والحالة هذه، أن تصدر أحكامًا مطلقة وكأنها سيدة الحقيقة في هذا العالم.

رابعًا: مسؤولية اللجان التشريعيّة في سنّ القوانين المدنيّة.

من يراقب عن كتب تطوّر القوانين المدنيّة السائدة في المجتمعات المعاصرة، ولا سيّما الغربيّة منها، يستشف أن هناك تباينًا واضحًا بينها وبين بعض القيم الدينيّة والأخلاقية السائدة في المجتمعات عينها. فقد اتسعت الهوّة حينما أقنعت بعض الدول على تشريع مسائل دقيقة كالعقل الرحيم والإجهاض. وعريها من المسائل الأخلاقية. وقد عبّر البابا يوحنا بولس في رسالته إنجيل الحياة عن هذا الواقع قابلًا: "من الملامح التي تميّز الاعتداءات على الحياة البشريّة، في أيامنا وقد ذكرنا ذلك آنفًا غير مرّة النزعة إلى المطالبة بتشريعها القانوني، وكأنها حقوق على الدولة أن تعترف بها للمواطنين، أقله تحت بعض الشروط. وهي، من ثمّ أيضًا، النزعة إلى ادعاء ممارسة هذه الحقوق بمساعدة مضمونه ومجّانية من الأطبّاء وأجهزة الصحة العامة" (إنجيل الحياة، رقم ٦٨). فلماذا هذا التباعد في عيش القيم؟ وما هو السبب الذي يدفع بعض الدول إلى سنّ شرائع جديدة في حقل الطبّ متجاهلة تصريحات المسؤولين الروحييّن وتصريحات بعض الملتزمين بمسار إنساني يحفظ حقّ الإنسان وكرامته؟

لا يخفى على أحد أن الإعلاء من شأن الحريّة الفرديّة وتعاظم روح الديمقراطيّة في المجتمعات المعاصرة حتى بلوغها "مستوى الأسطورة" أحيانًا، كان لهما الدور الأساسي في خلق مناخ فكريّ جديد، انعكس على كلّ المرافق الحياتيّة. فالاهتمام بالحريّة الفرديّة أضحى كل من أولويات التربية المعاصر. والبحث المتواصل عن الذات والحريّة منذ ديكارت حتى سارتر مرورًا بكيركغار ونيتشه، أرغم الدين على التراجع والتقهقر، لا بل باتت القيم الأخلاقية الناجمة عن الديانات، ولا سيّما المسيحية، مرفوضة من قبل الكثيرين (راجع تألق الحقيقة، رقم ٤).

إلى جانب الهالة الكبرى التي تتحلّى بها الحرية، هناك هالة النظام الديمقراطي الذي أضحى منذ فترة محطّ أنظار الشعوب، تسعى إليه لتنعم بشيء من السلام والبحبوحة. والجدير بالذكر أنّ الدولة الديمقراطية المعاصرة حلّت مكان المسيحية، وراحت تسنّ شرائع أدبية جديدة ترتكز في أغلب الأحيان على النسبويّة الأخلاقية والأكثرية في الرأي، ممّا يُخضع القيم الأخلاقية إلى حكم الظروف والأحوال. ونجد أنَّ هناك بونًا شاسعًا بين ما تعلّمه الأنظمة الديمقراطية وما تعلّمه الأديان وعامّة المسيحيَّة خاصّة في كثير من الشؤون الأخلاقية. فالشرائع المدنيّة الحديثة تبنى عامّة على ضوء اختبار يعيشه الشعب، ثمّ يُعمّد إلى تثبيته عن طريق الاستفتاء. أو لم تسْعَ بعض الدول في الآونة الأخيرة كهولندا وأستراليا وكندا إلى القبول بالقتل الرحيم بسبب إلحاح الكثيرين من المرضى والأطبّاء؟ أمّا الشرائع الدينيَّة فهي ليست من صنع الإنسان، بل تستمدّ مصداقيتها من الكتب المقدسة التي هي تعبير عن كشف الله لتعاليمه في تاريخ الإنسان.

ولكن، على الرغم من التباعد القائم بين الطرفين، لا بدّ للمشترع من أن يسعى ليكون قانونه عمليًا أي قابلًا للتطبيق، وأن يحترس في الوقت عينه من ضغط الاستفتاءات الشعبية والممارسات العابرة. وعليه، والحالة هذه، أن يعي أنّ كلّ تشريع في بلد ما يجب أن يساعد الإنسان على تربية ضميره وعلى ترقية المجتمع على الصعيدين الإنساني والأخلاقي. فكل محاولة تشريعية ليست بالضرورة جيدة على الصعيد الأخلاقي. فالخوف أن يهمل المشترع هذه الناحية ويبني قوانينه على عادات شائعة، تأصلت في المجتمع شيئًا فشيئًا، من دون أن يكون لها بعد أخلاقي سليم. وحينما ينتهك قانون قائم ويتكرر فعل انتهاكه في المجتمع، ينبغي للمشترع أن يتنبه إلى أبعاد الانتهاك القانونية ونتائجه المستقبلية. ففي القوانين الدولية، يتفق الجميع على أن القتل فعل شنيع بحد ذاته، وأن كلّ قاتل يستحق السجن. بيد أنّ بعض البلدان بدأت تفض الطرف عن ممارسات القتل الرحيم فتسمح بالإجهاض. لذا يقوم دور المتمرّس بالأمور الأخلاقيّة على مساعدة المشترع على التفكير بعمق ورويّة في إعادة قوانينه.

أخيرًا...

نستنتج ممَّا سبق بأنَّ الضمير هو الشاهد على سمّو الشخص، إلاّ أنَّ دور الضمير ليس مطلقًا بحيث يستقيم فوق الحقيقة والضلال، حتى طبيعته الخاصة تفترض علاقة مع الحقيقة الموضوعيّة الشاملة التي ينبغي أن يفتش عنها المجتمع. لذلك يجب أن يقتصر دور الضمير على إرشادات الإنسان إلى الخير وتلاقي الشر. بأنَّه ذلك الميل الطبيعي النابع من داخل الإنسان الذي يحثّه دومًا على إتباع الطريق القويم والإصغاء إلى صوت الحقيقة. ولكن، من يحدّد مضمون الخير والشرّ؟ هل يكفي أن يصغي الإنسان إلى ضميره كي يكون على طريق الخير؟ لذا يحتاج الضمير، والحالة هذه، إلى مرب كي يدله على مضمون الخير والشر، وإلا وقع ضحيّة الغوغائية والأفكار الخدّاعة.

المراجع

- "الكتاب المقدس". دار المشرق، بيروت. طبعة رابعة ١٩٨٨.

"التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية"، عدد من المعرّبين، مطبعة البولسية، ١٩٩ جونية، لبنان.

"الأخلاق والطب" دراسات أخلاقية (١) أ. جوزف معلوف – المكتبة البولسية، لبنان، ١٩٩٧.

"مدخل إلى اللاهوت الأدبي"، المطران سليم كيرلس بسترس، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، ١٩٩٥.

"المسيحية في آخلاقياتنا"، المطران سليم كيرلس بسترس، العدد ١٩ من سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، ١٩٩٩.

"إنجيل الحياة"، يوحنّا بولس الثاني، منشورات للجنة الأسقفية لرسائل الإعلام، جل الديب، لبنان ١٩٩٥.

 

 

تابع أيضاً

رح نرجع نعمرها

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بالقداس الإلهي في كنيسة القدّيس ....

10 تشرين ثاني 2020
عيد القدّيسة صوفيا وبناتها إيمان ورجاء ومحبّة

صاحب الغبطة يحتفل بعيد القدّيسة ....

17 أيلول 2020
عيد الصليب المقدّس

صاحب الغبطة يحتفل بعيد الصليب المقدّس في بلدة معلولا - ريف ....

14 أيلول 2020
ميلاد السيّدة العذراء

صاحب الغبطة يحتفل بعيد ميلاد السيّدة العذراء في كاتدرائيّة ....

8 أيلول 2020
عيد رُقاد وانتقال السيّدة العذراء

صاحب الغبطة وصاحب السيادة والكهنة يحتفلون بعيد ....

15 آب 2020
نداء

صاحب الغبطة يوجّه نداء عالمي لدعم أهل بيروت عقب تفجير مرفأ بيروت

12 آب 2020
يوم افتقاد

صاحب الغبطة يتفقّد المتضرّرين من جراء كارثة مرفأ بيروت

8 آب 2020
عيد التجلّي

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بقدّاس عيد تجلّي الرب في كاتدرائيّة ....

6 آب 2020
يا والدة الإله الفائقة القداسة خلصينا

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بالقدّاس ....

2 آب 2020


تابعونا على مواقع التواصل الأجتماعي

© 2024 -بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك