عدد الزيارات : 2705
المقالات الروحية 6 حزيران 2016


القداسة هي استسلام لمشيئة الله

الأب جان حنَّا

 عاش آباؤنا القديسون في استسلامٍ تام لإرادة الله في كلِّ تفاصيلِ حياتهم، وقد سلّموا إرادتهم، وأفكارهم، وحياتهم، أمام عرش العلي وقالوا له: "لتكن مشيئتك يا رب لا مشيئتي". هذا ما يجب علينا فعله نحن كمسيحيين مؤمنين موجودين في هذا العالم، نحاول أن نعيش القداسة في حياتنا على غرارِ آباءنا القديسين.  

كثيراً ما نحاول تغيير حياتنا للأفضل، ونحاول تغيير العالم من حولنا، ونكون أشخاص فعالين في المجتمع، ساعين إلى القداسة في حياتنا، وتقديس العالم من حولنا. ولكن الإنسان الحكيم، هو الإنسان الذي لا يتّكل على قدرته الشخصيّة، وإنّما على قدرة الله في تحويل ذاته أولاً، ومن ثم تحويل العالم من حوله.

جلَّ مشكلات العالم ومشكلاتنا الشخصيّة، تكمن في الرَّغبَةِ بتغيير كلِّ شيء بقدراتنا الذاتيّة. وننسى أن الله هو القادر على إحداثِ هذا التغيير بقدرتهِ الإلهيّة. ويجب علينا أن ندركَ تماماً أنه إن لم يحصل تغيير جذري وشامل في حياتنا، لا يمكننا أن نغير العالم، وهذا التغيير يجب أن يكون تغيير في نمط حياتي، وتفكيري، وقلبي، وعقلي.

هذا التغيير لا يمكن أن يتمَّ إلا من خلال التمرين والعمل المستمر على اكتشاف نقاط الضعف الموجودة لدينا، في كل مناحي حياتنا الشخصيّة، العقليّة منها، أو القلبيّة، أو الروحيّة، أو الاجتماعيّة...إلخ، والعمل على تطويرها، وتنميتها، وتغييرها لتصبح أفضل، فنحدث بذلك تغييراً جذرياً في حياتنا، لنكون مستعدين لإحداث التغيير في العالم.

الإنسان الحكيم، هو الإنسان الذي يدرك أن الله هو الذي يستطيع أن يحوّل مجتمعه الذي يعيش فيه، ويقوده بقوّة الروح الحاضر في داخله إلى الملكوت.

هنا يجب علينا أن نضع ثقتنا التامّة في الله، وندرك أنه هو من ينمي فينا كل الأعمال التي نقوم بها لتغيير حياتنا، نحن ما علينا إلا أن نزرع، وهو ينمي زرعنا ويعطيه الحياة.      بارتفاعي إلى فوق، أرفع أيضاً من هم حولي إلى فوق، وأستطيع أن أحدث تغييراً كبيراً في العالم. هذا ما قاله الرب يسوع المسيح: "وأنا متى رفعت عن الأرض اجتذبت إليَّ الجميع" (يو١٢: ٣٢). بترفعي عن أمور الحياة ومغريات العالم، أترفع عن صغائر الأمور الموجودة في داخلي، والتي تعيق تطوير شخصيتي، وتطوير حياتي، فأتغير وأصبح قادراً على تغيير العالم من حولي. ولكن هذا لن يتم إلا بالاستسلام لمشيئة الله في حياتنا وتسليمه دفة القيادة وإيماننا به بأنه هو القادر على قيادتنا وإحداث التغيير في حياتنا.

الاستسلام لمشيئة الله، هو تسليم النفس، والفكر، والعقل، والقلب، وكل كياننا لله، ليملك عليها ويغيرها، ويعيد إليها بهاءها القديم التي خلقت عليه، على صورة الله ومثاله.

كيف يتم الاستسلام؟ وكيف نحيا الاستسلام؟               

الاستسلام لمشيئة الله يتم من خلال ثلاث نقاط:

أولاً- ذبيحة الفكر:    

ذبيحة الفكر، هي تقدمة أفكارنا أمام مذبح الرب. أي أن نضحي بفكرنا، ليكون عوضاً عنه فكر السيد المسيح. علينا كل يوم أن نقدّم فكرنا، والفكر هو مفتاح كل حياة الإنسان.

الإنسان هو كائن مفكّر وقادر على صنع تاريخه وحياته ومستقبله، لكن الله هو سَيّد التاريخ، الذي يصنع كلَّ شيء، والذي يقود كلَّ شيء، من أجل خير الإنسان.

الإنسان الذي يستسلم لإرادة الله، يكون أداة لصنع الخير للعالم، وصنع التاريخ الخيّر، الذي يحاول الشرير أن يدمِّره. الشيطان يريد لنا الدمار، دمار الأرض، دمار الإنسان، ودمار الإنسانيّة، وأكثر من ذلك دمار التاريخ البشري. لكنَّ الله صانع التاريخ وسيّد التاريخ، سيقود التاريخ إلى الملكوت السماوي، إلى اللحظة التي سيكون فيها يسوع ملكاً على الكلِّ، ويكون الله الآب هو الكلّ في الكلِّ.

لذلك علينا أن نعمل ليكون تاريخنا تاريخاً إلهيِّاً ومتألهاً، يعمل الله فيه ويقوده إلى برِّ الأمان، وإلى اللحظة التي فيها يستطيع الله، أن يحوّل التاريخ المحيط بنا.

بتاريخي الشخصي يستطيع السَيّد المسيح الذي بيده كلَّ شيء أن يحول العالم من حولي. لذلك علينا أن نقدّم فكرنا أمام عرش الله ليعمل هو بفكرنا، لأن الله لا يقدّس نفساً تفكر هي بذاتها.

ولكن كيف نقدم فكرنا لله؟

ذلك عندما نُفكّر دائماً بمجد الله وتسبيحه. وعندما نُخلي ذاتنا على مثال الرّب يسوع المسيح، الذي هو الصورة العظمى لكلِّ ذبيحة عقل وفكر. فربنا يسوع المسيح أخلى ذاته من أجلِ خلاصِ الإنسانيّة، ليكون أداة يعمل بها الآب، ومن ثم يمنح الرّوح القدس للعالم، ليعمل هذا الأخير بدوره، ويحوّل وجه البسيطة إلى وجهٍ جديد، يملك في السلام والحب، بقوة الإيمان، وبقوة عمله، في قلب الكنيسة.

هذا يعني أنه يجب علينا أن نكون في حالة تفكير دائم بمجد الله، لا بمجد العالم، وبعمل الله ومخططه الخلاصي للبشر، وكيف يمكن لنا أن نكون أدوات بيد الله على مثال يسوع المسيح لتحقيق مخطط الله الخلاصي للبشر.    

ثانياً- ذبيحة الإرادة:

الإرادة هي التي تقرر ماذا يفعل الإنسان. ففي الكثير من الأحيان نقدّم فكرنا لله، ولكن إرادتنا تعمل ما يخالف فكرنا، وما يخالف فكر الله. فتضعف إرادتنا وتجعلنا نقوم بأعمال لا نرغب القيام بها "لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ" (رو٧: ١٥). وعندما لا تتطابق الإرادة مع الفكر، تكون النتيجة عدم التطابق مع إرادة الله.

لعل آدم كان يعلم أن إرادة الله تقوم على عدم التناول من الثمرة، فقد كان فكره منسجماً مع فكر الله، ولكن إرادته كانت ضعيفة، فقادته لتناول الثمرة، وبالتالي قادته للهلاك مع حواء.

ذبيحة الإرادة هي أمر أساسي، حيث تنسجم فيها الإرادة مع الفكر، بحيث يُضَحّي الإنسان بإرادته الشخصيّة لتحل مكانها إرادة الله. لذلك نرى السَيّد المسيح يضع شرطاً أساسياً للذين يريدون أن يتبعوه بقوله: "... من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه..." (لو٩: ٢٣)، أي أن يتخلى عن إرادته الشخصيّة لتحل مكانها إرادة الله المقدَّسة.

ثالثاً- ذبيحة الحريّة:

نحن البشر أحرار، ولكن حريتنا هي مسؤوليّة في قلب العالم. ولكن كيف نقدّم حريتنا لله؟

يطرح الفكر الإنساني ما يشاء، والقلب يشتهي ما يشاء، والإرادة لديها رغباتها وترغب في عمل الخير، وتميل أحياناً إلى صنع الشر إن غفت، وإن مالت نحو الخطيئة. فالإنسان في طبيعته التي تشوّهت بسبب الخطيئة، لم يعد بكلِّ طاقاته متوجهاً نحو الله، وإنما صار بحاجة إلى عمل فعل إرادي، وجهاد روحيّ، حتى يبلغ إلى الانسجام التام مع الله. لم يعد بكليته بسبب الخطيئة، مشدوداً نحو الله، صارت أهواءه وميوله التي نجمت عن الخطيئة تشدّه نحو الأسفل، وتشدّه نحو العالم، ونحو الملذات.

الحريّة تكمن هنا في اختيار إرادة الله، إنها عمل الاختيار، إنها عمل الرفض، لما يغيظ الله في القلب، وفي الفكر، وفي الإرادة.

الحريّة الحقيقيّة هي حرية أبناء الله، على غرار ابن الله يسوع المسيح، الذي اختار بملء إرادته وبكامل حريَّته أن يفتدي العالم بدمه المقدَّس على الصليب.

الحريّة الحقيقيّة هي حريّة أبناء الله، التي تجعلنا أحرار من كل قيد بشري ومادي، يمنع تقدمنا وتطورنا، وتوجهنا نحو الله.

نحن أحرار ونستطيع أن نعمل أموراً كثيرة وكبيرة، ولكن لنجعل من هذه الحريّة، حريّة الصلاة، حريّة القداسة، حريّة الحب التَّام لله الآب، وللنفوس التي أشتراها يسوع بدمه المقدَّس.

دعوتنا هي التشبه بالقديسين، في الاستسلام، وتسليم العقل، والإرادة، والقلب، والحريّة الشخصيّة لله تعالى، فنكون أداة فاعلة بيد الله لتغيير ذواتنا وتغيير البشريَّة، والعالم بأثره.

 

  

تابع أيضاً

رح نرجع نعمرها

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بالقداس الإلهي في كنيسة القدّيس ....

10 تشرين ثاني 2020
عيد القدّيسة صوفيا وبناتها إيمان ورجاء ومحبّة

صاحب الغبطة يحتفل بعيد القدّيسة ....

17 أيلول 2020
عيد الصليب المقدّس

صاحب الغبطة يحتفل بعيد الصليب المقدّس في بلدة معلولا - ريف ....

14 أيلول 2020
ميلاد السيّدة العذراء

صاحب الغبطة يحتفل بعيد ميلاد السيّدة العذراء في كاتدرائيّة ....

8 أيلول 2020
عيد رُقاد وانتقال السيّدة العذراء

صاحب الغبطة وصاحب السيادة والكهنة يحتفلون بعيد ....

15 آب 2020
نداء

صاحب الغبطة يوجّه نداء عالمي لدعم أهل بيروت عقب تفجير مرفأ بيروت

12 آب 2020
يوم افتقاد

صاحب الغبطة يتفقّد المتضرّرين من جراء كارثة مرفأ بيروت

8 آب 2020
عيد التجلّي

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بقدّاس عيد تجلّي الرب في كاتدرائيّة ....

6 آب 2020
يا والدة الإله الفائقة القداسة خلصينا

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بالقدّاس ....

2 آب 2020


تابعونا على مواقع التواصل الأجتماعي

© 2024 -بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك